علم الفولكلور والأدب الشعبى


هناك فئة من الناس تخصَّصت في علم الانحراف بثقافة المجتمع من داخله - عمدًا أو جهلاً - وتُلبس هذا الانحراف ثوبًا جذَّابًا خدَّاعًا حبيبًا إلى قلوب الناس، وهو "الشعبية"، فدعوا إلى "الفنون الشعبية" و"الآداب الشعبية"، أو ما يسمونه "الفولكلور" - على حدِّ تعبير الدكتور "محمد محمد حسين" - ويمكن إيجاز منظور الدكتور "محمد محمد حسين" في هذه القضية على النحو التالي:

1- في تعريف الفولكلور:
وضع الدكتور "محمد محمد حسين" تعريفًا جاء فيه: "الفولكلور Folkloreاصطلاح ظهر في أوربا للمرة الأولى في منتصف القرن الميلادي الماضي؛ ليدل على الدراسات التي تتَّصل بعادات الشعوب وتقاليدهم وطقوسهم وأساطيرهم، ومعتقداتهم وفنونهم، وما يجرى على ألسنتهم من أغانٍ وأمثال، أو شتائم وأهازيج، يدرس ذلك كله دراسة تاريخية من خلال الآثار والعادات، وتستقصي مظاهره الباقية في الجماعات البشرية المعاصرة.

وقد انصرفت هذه الدراسة في أكثر الأحيان - ولا سيما في نشأتها الأولى - إلى المجتمعات المتخلفة وإلى المستعمرات؛ بقصد التعمُّق في تحليل نفوس أصحابها، وإدراك دوافعها ونوازعها، وفهم ما ينزع عواطفها وتفكيرها من منطق؛ بغية الوصول إلى أمثل الطرق وأحذق الخُطَط؛ للتمكُّن منهم واستغلالهم واستدامة عبوديتهم، وقد استُغِلَّت بعد ذلك في تدعيم بعض المذاهب والاتجاهات، ولقيت عناية خاصَّة في ظل الشيوعية"؛ (محمد محمد حسين، "الإسلام والحضارة الغربية" 270- 283).

ويدخل تحت مصطلح الفولكلور - بغضِّ النظر عن فذلكات الباحثين في تحديد ارتباطه بعلوم الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا، وبغضِّ النظر كذلك عن تمييزهم لمصطلحات أخرى مرتبطة بعلم الفولكلور؛ مثل: التراث الشعبي، والتراث الشفاهي، والفنون الشعبية - يدخل تحته العديدُ من العناصر التي أدخلها أبرز الغربيين في هذا المجال مثل "جوناس باليز" و"مامي هورمون" و"أرميني فوجلين" و"ماك ليش" و"سميث تومسون" وغيرهم.

وهذه العناصر هي:

الشعر الشعبي والنثر، والحكايات والألغاز والنوادر، والنِّكات والوصفات، والتعاويذ والطقوس السحرية، والأمثال والأغاني، والملاحم والترانيم والرقصات، وحكايات الجانِّ، وشعائر الاحتفالات، والفنون والحِرَف وطرق الكلام الشعبية، واللهجات والأقوال السائدة بين الناس، والطب الشعبي، والتشبيهات الشعبية والصيغ الساخرة والتلاعب بالألفاظ، والكتابات التي تُكْتَب على شواهد القبور، والإيماءات، والرموز والدعابة، وطقوس أعياد الميلاد وحفلات الزواج والختان، ومراسم الوفاة... إلخ؛ (أحمد مرسى، "المأثورات الشعبية الفولكلور").

2- الفولكلور عدوى انتقلت إلينا من الغرب:
يرى الدكتور "محمد محمد حسين" أن الفلكلور هو عدوى انتقلت إلى بلادنا بفعل حب التقليد للأجنبي، ويقول في ذلك: "ولما استولى علينا حب التقليد الأعمى للأجنبي في الخير والشر، كان ما ابتُلِينا به أننا أصبحنا لا نُعجب بأثرٍ من آثارنا أو عادة من عاداتنا حتى نسمع تقريظ الأجنبي لها فنُقرظها تبعًا له، أو نرى اهتمامه بها وعنايته بدراستها فندرسها اقتداء به، وكان الفولكلور من بين ما انتقلت إلينا عدواه".

3- الناس يجهلون الأهداف الحقيقية للفولكلور:
يرى الدكتور "محمد محمد حسين" أن أهداف الغرب من تأسيس علم الآثار وتشجيع الفولكلور في بلادنا الإسلامية هي: تدعيم سياسة التجزئة التي نفذوها حينما قطعوا أوصال هذه البلاد؛ وذلك: "بتلوين الحياة المحلية في كل بلد من البلاد الإسلامية بلون خاصٍّ يستند إلى أصوله الجاهلية الأولى، وبذلك تعود الحياة الاجتماعية التي وَحَّد الإسلام مظاهرها إلى الفرقة والانشعاب، برجوعها إلى أصولها القديمة السابقة على الإسلام، فيستريح المُسْتَغِلُّون من احتمال تكتُّل المُسْتَعْبَدين، ثم تكون هذه المدنيات الحديثة أكثر قبولاً لأصول المدنية الغربية، ويكون كلُّ شعب من هذه الشعوب أطوع لما يراد حمله عليه وزجُّه فيه من الصداقات ومناطق النفوذ، بعد أن تتفكك عُرَى الأُخُوَّة العربية والإسلامية" (انظر: مقالتنا: "علم الآثار ودعوة المسلمين إلى حياة ما قبل الإسلام").


ويؤكد "مصطفى عاشور" ما ذهب إليه الدكتور "محمد محمد حسين" فيقول: "سعى الفرنسيون إلى عَزْل بعض المناطق بالجزائر، والحيلولة دون اتِّصالها أو تفاعُلها مع باقي المناطق الأخرى، وكان تركيزهم على منطقة القبائل، ورَعَوْا نزعاتها الإقليمية التي تتنافى مع وحدة الشعب الجزائري، وذلك بالاهتمام بالأعراف والتقاليد واللهجات والفولكلور على حساب الثقافة العربية الإسلامية، وصدرت تعليمات واضحة لموظفي الإدارة الاستعمارية الجزائرية تتلخَّص في ضرورة حماية القبائل وتفضيلهم في كل الظروف على العرب" (مصطفى عاشور، الجزائر: تضحيات ومجازر، إسلام أون لاين).

4- الدعوة إلى الأدب الشعبي في مصر خرجت من رَحِم الدعوة إلى النعرة الفرعونية، وبدأت بالدعوة إلى الأدب الريفي:
يقول الدكتور "محمد محمد حسين": "أما دعاة التجزئة، فقد نشطوا في أعقاب الحرب العالمية الأولى في الدعوة إلى بعث التاريخ القديم في كل جزء من أجزاء الوطن العربي، وهو التاريخ السابق على استعرابها بدخولها في الإسلام واتخاذها لغته، فأطلَّت النعرة الفرعونية في مصر برأسها، وأسفرت عن وجهها، وغزا بها دعاتُها كل ميدان: في الكتب المدرسية، وفي النحت والتصوير، وفي الصحافة، وفي أنماط البناء، وفي الأزياء، وفي الأشعِرَة والشارات، وفى الأدب والقصة منه بوجه خاصٍّ، وعارضوا بها الجامعة الإسلامية... ودعا فريق من دعاة هذه النعرة إلى أن تقوم نهضة مصر على بعث المجد الفرعوني القديم، وذلك بالبحث عن موضع الاتصال بين مصر القديمة ومصر الحديثة في ميادين الأدب وكتب العقائد وطقوس العبادة.

ودعوا إلى تكوين فنٍّ مصري النزعة صريح في مصريته، وإلى إبداع أدب مصري محلي يصوِّر أمانينا وآمالنا، ويصوِّر نيلنا وأرضنا المليئة بالسحر والجمال، يصور الروح المصرية في القصة والفُكَاهة والمسرح، ويكون له طابع متميِّز عمَّا للآداب الغربية والشرقية الأخرى، وقال أحدهم: إن أوَّل ما يجب أن نُوَلِّي وجوهنا شطره هو الأدب الفرعوني، فإذا لم يكن للكاتب ملَكَة ينميها أو وجدان يستمده، فليِوَلِّ وجهه شطر الأدب الريفي".

ويضرب الشيخ "مصطفى صبري" مثالاً حيًّا على النعرة التي اتجهت فيها مصر في عهده إلى بعث المجد الفرعوني القديم، بما قررته جامعة فؤاد الأول - جامعة القاهرة حاليًّا - في عهد وزارة "على علوبة باشا": أن تكون شارات حرَّاسها من صور آلهة المصريين القدماء، فتكون شارة كلية الزراعة إله الزراعة، وشارة كلية الطب إله الحكمة، وقد ذكر الشيخ "صبري": أن الشيخ "عبد المجيد اللبان" - عميد كلية أصول الدين وقتها - كتب مقالة في الصحف استنكر فيها هذا القرار الذي اتخذته الجامعة، ولفت نظر الجامعة والوزارة إلى واجبهما نحو دين الدولة، الذي هو الإسلام، البعيد كلَّ البعد عن الوثنية ورموزها، فلم تسمعا له، وسكتت مشيخة الأزهر عن تأييد الشيخ اللبان، فاستقرَّت شارات الآلهة (مصطفى صبري، "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين"، ج 1 ص 32).

وجاء في موقع كلية الآداب جامعة القاهرة تفصيل اختيار شعار الكاتب المصري الفرعوني كرمز للكلية ما نصه:

"كانت وظيفة الكاتب من أهم الوظائف التي شغلها المصري القديم، فقد كان من دواعي فخر المرء أن يذكر أنه كاتب ملمٌّ بعلوم الكتابة وفنونها، وقد شاعت تماثيل الكَتَبة على مرِّ عصور الحضارة المصرية، وتمثال الكاتب المصري الذي اتخذته الكلية شعارًا لها يرجع إلى عصر الأسرة الخامسة في الدولة القديمة، وهو مصنوع من الحجر الجيري، ويمثل صاحبه جالسًا في وضع القرفصاء واضعًا بردية على ساقَيه، ويمسك بريشته، بينما ينظر إلى الأمام وكأنه يتأهَّب للكتابة، وجديرٌ بالذكر أن هذا التمثال من مقتنيات المتحف المصري" (انظر كذلك: مقالتنا بعنوان: "أسطورة شادي عبدالسلام ونزعته الفرعونية").

5- وجه الشبه بين دعاة الفولكلور ودعاة العودة إلى القديم السابق على الإسلام: هو أن كليهما يحاول ردَّ عاداتنا وأنماط حياتنا إلى أصول قديمة:

يرى الدكتور "محمد محمد حسين" أن أوجه الشبه بين الفريقين ظاهرة جلية، ويفسر ذلك بقوله: "كلاهما يحاول ردَّ عاداتنا وأنماط حياتنا إلى أصول قديمة؛ لأنهما يزعمان أن تغير الدين في هذه البلاد من الوثنية إلى النصرانية ثم الإسلام، وتغير اللهجة والثقافة والحضارة فيها تبعًا لذلك من لغاتها القديمة إلى العربية وما بينهما من أطوار - لم يقطع ما بين هذا التاريخ القديم وبين الحاضر من صلات".

6- الفولكلور يتضمَّن ألوانًا شاذَّة وبذيئة ومتخلِّفة يُدافِع عنها بزعم أنها طابعنا القومي المميز لنا، والأدب الشعبي سطحية في التفكير وبساطة تلائِم السُّذَّج من البدائيين والجُهَّال، لا يشبع حاجة المثقفين وطلاب المعرفة:
يقول الدكتور "محمد محمد حسين": "ولما كان أكثر الناس يجهلون أهدافه الحقيقية الأولى والأخرى - أي: الفولكلور - وظنوا أن المقصود هو الإشادة بهذه الألوان الشاذة حينًا، والبذيئة حينًا آخر، والمتخلفة تارة أخرى – اتَّجه همُّهم إلى الدفاع عنها وتمجيدها، بزعم أنها هي طابعنا القومي المميز لنا، الذي لا ينفكُّ عنَّا ولا ننفك عنه"، وعن الأدب الشعبي يقول الدكتور "محمد محمد حسين": "يتميز الأدب الشعبي - أولاً وقبل كل شيء - بسطحيته في التفكير، وبساطته التي تلائم السُّذَّج من البدائيين والجُهَّال؛ ولكنها لا تشبع حاجات المثقَّفين وطُلاَّب المعرفة من أصحاب الفكر الرفيع والذوق الرهيف والمزاج الصافي الصقيل"، ويتَّفق رأي الدكتور "محمد محمد حسين" مع تعريف علماء الاجتماع للأدب الشعبي، من أنه أدب الفلاحين وأدب الطبقات الدنيا من المجتمع، أو أنه "الأدب الذي يُقَدَّم للطبقات الهابطة من الأمة بمفهومها الاجتماعي، أو الكادحة بمفهومها السياسي" (الدد محمد محمدنا، في الأدب الشعبي الصحراوي، موقع اتحاد الصحفيين والكتاب الصحراويين).

7- الفن في أصله وسيلةٌ من وسائل السُّمُوِّ فوق الواقع المُسفِّ، يرتفع بالذوق العام ولا يهبط به، والأدب بطبعه متعة عقلية وليس هواية شعبية، والنُّقَّاد غير مكلَّفين بعفو وخواطر البدو والعوام:
ينتقد الدكتور "محمد محمد حسين" بشدَّة الدعوةَ إلى الفن الشعبي وإلى الأدب الشعبي فيقول: "الفن - في صورته الكاملة الناضجة - وسيلةٌ من وسائل السُّمُوِّ فوق الواقع المُسفِّ، ويهدف إلى ترقية الذوق الساذج المتخلف وتثقيفه، لا الهبوط بالذوق العام إلى مستوى الأذواق الفجَّة التي لم يهذبها التثقيف باسم الشعبية والواقعية، والفن الذي يستحق أن يُجْهِد النقَّاد أنفسهم في تذوُّقه ونقده هو الأثر الذي أجهد الفنان نفسه في إنتاجه، فالنُّقَّاد غير مكلَّفين بعفو خواطر البدو والعوام؛ لأن عفو خواطر العوام لا يصلح إلا لِلَهْو أمثالهم من العوام، أمَّا عقول المثقفين فهي لا تجد في مثل هذا الإنتاج لذة أو متاعًا.

والفن الراقي دائمًا، وفى كل عصر وفى كل مكان وفى كل لغة - مقصورٌ على الخواص؛ لأن الأثر الذي يستحق الاعتبار والبقاء لا يصدر إلا من قلة موهوبة، ومن المسلَّم به أن الموهبة والاستعداد الحسن لا ينمو ولا ينضج إلا على المِرَان والتثقيف والعُكُوف على الدرس والتجويد؛ فالأدب بطبعه متعة عقلية وروحية، وهو بهذا الاعتبار ليس هواية شعبية، والمشكلة فيه ليست مشكلة الألفاظ فحسب، ولكنها في مشكلة الأفكار والأخيلة التي تحتاج في تذوقها إلى مستوى ثقافي معين، فمهما نعمل على تيسير الألفاظ وجعْلها في متناول عامَّة الناس، فلن يستطيعوا إلا فهم ما يلائم عقولهم وثقافتهم من الآداب السطحية، التي لا تعبر عن أغوار الحقائق وأعماقها، ذلك هو المدلول الحقيقي لكلمة (الأدب الشعبي).

8- الادِّعاء بأن الأدب الشعبي مجرد تسجيل للواقع خلط وتهريج باسم الشعبية والواقعية، وعدم ارتفاع بهذا الواقع عن إسفافه وابتذاله:
يرفض الدكتور "محمد محمد حسين" هذا الادعاء فيقول: "كثُر خلط المُخَلِّطين وتهريج المهرِّجين باسم الشعبية والواقعية، كأن مهمة الأديب والفنان هي تسجيل الواقع وعرضه على الأنظار والأسماع في إسفافه وابتذاله، وبكلِّ تفاصيله وعوْراته، وكأنَّ الأديب أو الفنان ليس مطالَبًا بأن يصفى هذا الواقع ويحمله، ويرتفع بنفسه عن أن يكون مجرد آلة للتسجيل".

9- الفولكلور والأدب الشعبي دعوة إلى اتخاذ اللهجات السوقية التي يطلق عليها العامية لغةً للأدب وللقصة بوجه خاص، والتدرُّج بها إلى أن تقطع الصلة بالعربية الفصحى ومن ثَمَّ إلى بوار التراث كله:
يقول الدكتور "محمد محمد حسين" في معرِض حديثه عن خطورة الفولكلور على الجانب اللغوى: "فهم يشتركون جميعًا في الدعوة إلى اتخاذ اللهجات السوقية التي يطلقون عليها (العامية)؛ لأنها - بزعمهم - أصدق تعبيرًا عن الشعب، وخبثاؤهم ممَّن يتدرَّجون في الوصول إلى هذا الهدف وبلهاؤهم ممَّن تعمر بهم المواكب دون أن يعرفوا إلى أين يُسَاقون، لا يبالون حين يتوهَّمون المشاكل ويخلقونها، وحين يرفعون أصواتهم بالدعوة إلى التطوير في اللغة وفى الأدب، وفى رسم الحروف وفى قواعد النحو والإملاء - أن يؤدى ذلك في الحال أو في المستقبل إلى بوار تراثنا كله، وإلى أن تنقطع صلتنا به، وأن يضرب بينه وبين الأجيال المقبلة بسور من حديد.

ومن الواضح أن قبول مبدأ التطوير والتسليم به والأخْذ فيه لا ينتهي إلى حد معين، أو مدًى معروف يقف عنده المطوِّرون، وأن كل خطوة تالية في التطوُّر سوف تكون أيسر من سابقتها، وأمعن في البعد عن المصدر الأول، وفى توسيع شُقَّة الخلاف الذي لا بُدَّ أن ينشأ بين المتفاهمين والمتعارفين، من مشارق بلاد العرب إلى مغاربها... ويستند دعاة هذا الاتجاه إلى اتخاذ اللهجة السوقية لغةً للأدب والقصة بوجه خاص إلى ما كان من نشأة اللغات الأوربية الحديثة على أنقاض اللغة اللاتينية".

ويستطرد الدكتور "محمد محمد حسين" قائلاً: "ليس في الدنيا كلها أمة راقية تكتب الشعر والأدب باللغة التي تتعامل بها في الأسواق، والبدائيون وحدهم هم الذين يكتبون بلغة الحديث، فإذا تطوَّر هذا الأدب سما وارتفع عن لغة الحديث، وخلَّف وراءه لغة الأسواق؛ ذلك لأن التعامل يحتاج إلى لغة سريعة الوفاء بالغرض، ولكنه لا يحتاج إلى لغة دقيقة كحاجة العلم إليها، ولو اتخذت لغة الأسواق لغة للأدب على ما يريد الخادعون والمخدوعون، لتطوَّرت وارتقت، ولنشأ إلى جانبها حتمًا لغة أخرى للتعامل وللحديث اليومي تتحرَّر من قواعد اللغة الأدبية وقيودها، وتنزع عنها ما لا تحتاج إليه مما يفيد الدقة والجمال، ومن المسلَّم به أن الهُوَّة التي تفصل لغة الأدب عن لغة الحديث تضيق بتقدُّم الأمم وانتشار الثقافة فيها، ولكن ذلك يجيء عن طريق ترويج لغة الأدب ورفْع العامة إليها، لا ترويج اللهجة السوقية والنزول بالخاصة إلى مستواها".

لكن الشيخ "مصطفى صبري" ينظر إلى هذه القضية نظرة أخرى يطمئننا فيها على مستقبل الفصحى واتساع المسافة بينها وبين لغة العامة فيقول: "لا تجد في العالم لغة من اللغات الراقية إلا وقد طرأت عليها تغيُّرات كبيرة وتطورت، بحيث لا يفهم الجيل الحديث لغة الجيل القديم أو يستثقلها، إلا اللغة العربية الفصحى؛ فتجد ما قيل أو كُتب من ألف سنة من النظم أو النثر العربي كأنه قيل اليوم أو كُتب، أو أفضل مما قيل اليوم أو كُتب، وهذا بفضل القرآن الذي ثبت على ما كان عليه من لفظه المعجز لم تتبدَّل منه ولا كلمة واحدة، وبقيت لغة الفصحاء والبلغاء في كل عصر غير متباعدة عن جاذبية محور القرآن، وكان من أثر تبعية الفصحى للقرآن وعدم انقيادها للتطوُّرات التي تقتضيها الطبيعة البشرية: أن اتسعت مسافة الفرق في اللغة العربية بين الفصحى الثابتة بثبات القرآن والعامية المتغيِّرة بتغيُّر الزمان، وأصبحت أكثر مما بينهما في أي لغة أخرى" (مصطفى صبري، المرجع السابق، ج 4 ص 148).

لكن أخطر ما في الفولكلور والأدب الشعبي هو تأثيره على الدين؛ فهما يحوِّلانه إلى نوع من الفولكلور يضيع في الموروث الشعبي ويختفي جوهره العَقَََدى، وتستبدل شعائره التي تفرضها الشريعة والتي تحدد طريقة أدائها في صيغة تفصيلية، بطقوس أخرى تتعارَف عليها الجماعة، وتتبنَّاها وتدافع عنها، وتصل بها أحيانًا إلى حدٍّ من القطيعة التامة أو الناقصة مع الشعائر الأصلية.


ويضرب الباحثون مثالاً لذلك بما تفعله الطرق الصوفية، التي تبدو في الجانب الأغلب منها ظاهرة فولكلورية تلبس ثوب الدين، وتتخلى في تفضيلها "الحقيقة" على "الشريعة" عن الالتزام التام بالفرائض، وتحل محلها أذكارها وأورادها الخاصة، وقد يصل الشطط ببعض أتباعها إلى حد ادعاء أنه قد نزل على شيخهم كتابٌ من السماء، مثل ما يزعم بعضهم عن كتاب اسمه "شراب الوصل"، وهو عبارة عن أشعار تم إخراجها في شكل مشابه للمصحف الشريف، وكذلك مثل مزاعم البعض الثاني التي تقول: إن شيخهم الأكبر قد فرضت عليه صلاة مختلفة وهو راجع من رحلة الحج، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تجلَّى له في الصحراء الجرداء وأملاها عليه.

ويظهر الفولكلور الصوفي عيانًا بيانًا في "موالد الأولياءالتي يختلط فيها الأخروي بالدنيوي، والديني بالاجتماعي، والتعبد بالفنون - اختلاطًا دقيقًا وواسعًا، يتوارى فيه الدين إلى الخلف، وتحل محله طقوس فنية اجتماعية، يدعي أصحابها أنها هي الدين.

وهناك مَن يحوِّل الدين إلى أسطورة خالصة، حين تختلط "أساطير الأولين" بالعقائد والتصوُّرات، وهذه المسألة قديمة قِدَم الدين والإنسان معًا؛ فأديان مصر القديمة والميثولوجيا اليونانية طالما زحفت إلى التأويلات المسيحية واليهودية، فعمَّقت الهوة بين ما أنزل على موسى وعيسى - عليهما السلام - وبين ما يعتقد فيه أتباع الديانتين (الدين صيغ متعددة Radouane77jeeran.com).

هذا هو علم الفولكلور والأدب الشعبي:

تقليد أعمى للغرب، وانحراف بثقافة المجتمع، يدعو إلى ذوق ساذج متخلف، لا يعمل على ترقيتة وتثقيفه، ولا يرتفع بالواقع في إسفافه وابتذاله، بل يهبط بالواقع والذوق العام إلى مستوى الأذواق الفجَّة التي لم يهذِّبها التثقيف باسم الشعبية والواقعية، يدعو كذلك إلى ألوان شاذة حينًا وبذيئة حينًا آخر، سطحية تلائم البدائيين والجُهَّال، يستخدم اللغة السوقية العامية كلغة للأدب وللقصة بوجه خاص، ويتدرج بها إلى أن تقطع الصلة بالعربية الفصحى، ومن ثَمَّ إلى بوار التراث كله، وأخطر ما فيهما هو تأثيرهما على الدين الذي يتحول بهما إلى نوع من الفولكلور فيضيع في الموروث الشعبي، ويختفي جوهره العقدي، وتُسْتبدل شعائره التي تفرضها الشريعة والتي تحدد طريقة أدائها في صيغة تفصيلية، بطقوس أخرى فولكلورية تتعارف عليها الجماعة، وتتبناها وتدافع عنها، وتصل بها أحيانًا إلى حدٍّ من القطيعة التامة أو الناقصة مع الشعائر الأصلية.